shape
shape

المزامنة التشريعية مع المستجدات التقنية في مسائل الإثبات (بين تجربة خليجية وواقع عراقي)

المزامنة التشريعية مع المستجدات التقنية في مسائل الإثبات (بين تجربة خليجية وواقع عراقي)

المزامنة التشريعية مع المستجدات التقنية في مسائل الإثبات (بين تجربة خليجية وواقع عراقي)

بقلم: المدرس المساعد مصطفى هشام هجرس

كلية القانون والعلوم السياسية - الجامعة العراقية

 

شهد العالم خلال العقدين الأخيرين تطورًا لافتاً في ميدان التقانة العلمية والتكنولوجية، وبدا بشكل أبرز من خلال شيوع تقنيات الذكاء الاصطناعي التي أبرزت نفسها كإحدى مظاهر الشراكة مع بني البشر في بناء مجتمعاتهم وتطويعها نحو ما ترغب به تلك المجتمعات، وهذا التطور قد انعكس بشكل لا يقبل الإنكار على شتى الميادين والمجالات الحياتية، ومن بينها بلا شك هو المجال القضائي.

 

ولعل أكثر تلك الميادين حساسية هو ميدان الإثبات، خاصة وأن الغايات المرجوة من إقرار قانون الإثبات هو تبسيط الشكلية على أطراف الدعاوى ورسم الطريق لقاضي الموضوع لأجل بناء قناعاته بشكل موافق لأحكام القانون نظراً لما قد يتم طرحه من أدلة ومعطيات أمامه.

 

وقد أصبح معرفة مدى إمكانية التشريعات (بما فيها تشريعنا العراقي) في مواكبة المستحدثات العلمية والمستجدات التقنية هاجساً وتحدياً تعظم أهميته بشكل أساس من خلال تولد المخاوف من فقدان البنيان القانوني لجوهر العدالة وروحها فيما لو أدمجت تلك التقنيات ضمن تشريعات الدول، فضلاً عن الخشية التي قد تتسرب إلى نفوس القضاة من تعطيل السلطة التقديرية التي يمنحها القانون لهم في كثير من الدعاوى المنظورة أمامهم، سواء أكان القضاء عادياً أم إدارياً، بل وحتى دستورياً إن تطور الحال إلى ذلك.

 

وتأسيساً على ما تقدم فإن المستقرئ لتشريعات وقوانين الإثبات المعمول بها في كثير من الدول (بما فيها العراق في ظل قانون الاثبات رقم 107 لسنة 1979 المعدل)، يستشعر الهوّة الملحوظة بين التسارع التقني والمحدودية القانونية، بما يولد الضرورة لاستيعاب هذه المستجدات ضمن منهجية تشريعية تأصيلية.

 

ولعل الإرادة التشريعية المتولدة من حاجة الشعوب لاستيعاب المستجدات التقنية تبرز بشكل ملحوظ من خلال تلك الخطوة الرائدة التي تبنتها المملكة العربية السعودية عام 2021 بإصدارها مرسوماً ملكياً تضمن إقرار نظام الإثبات، والذي اعترف في طيات بنوده ومواده بالأدلة الرقمية والبيانات المستخرجة من الوسائط التقنية كأدلة أصلية يمكن الاحتجاج بها في مسائل الإثبات. هذه الخطوة وإن كانت تتسم بالريادة، لكنها تعكس في الوقت ذاته وجود موانع مجتمعية تحول دون تبني تلك الوسائل المتقدمة بشكل انسيابي، ويعزى ذلك إلى عوائق عديدة، منها عدم الثقة بالأنظمة الرقمية بشكل مطلق، وكذلك المخاوف من خرق خصوصيات الأشخاص طبيعيين كانوا أم معنويين، ناهيكم عن وجود الضعف الملحوظ في الإلمام القضائي ببعض الجوانب الفنية، كما أن من أخطر الهواجس ذات الصلة، هو مدى التضاؤل في تحكيم السلطة التقديرية لقاضي الموضوع في حال توسع النطاق في مجال الأدلة الرقمية. لكن الحق يقال في أن هذه الوسائل ليست في غنى عن دور القاضي بقدر ما تشكله كأدوات مساعدة وطرق مشاركة في بناء القناعة وصولاً لتحقيق أقصى درجات العدالة.

 

وتجدر الإشارة إلى أن تلك الوسائل التقنية ليست بمعزل عن احتمالية وقوعها تحت طائلة العبث، لذا اتجهت الجهود التشريعية دولياً وداخلياً نحو السعي إلى حماية الموثوقية في الدليل الرقمي، وخلق الثقة المشروطة من خلال وضع الضوابط الجديرة بقبوله ضمن مدرجات قوانين الإثبات.

 

فمن ذلك مثلاً، نجد أن اعتماد الأمم المتحدة لاتفاقية بودابست حول الجرائم المعلوماتية عام (2001) ومبادئ اللجنة الأوروبية لكفاءة العدالة (CEPEJ) هي أبرز المظاهر الدولية الهادفة لترسيخ المشروعية تجاه الدليل التقني وإعماله ضمن صميم إجراءات التقاضي بقدر يجعل الدول تمضي قدماً نحو الاستجابة لمثل هذه التطورات. كما أكدت اتفاقية الأمم المتحدة بشأن العقود الإلكترونية لعام 2005 على أن الرسائل والمحررات الإلكترونية يجب أن تحظى بذات الحجية القانونية للمحررات الورقية، مما يفتح الباب بشكل  تفاؤلي ملحوظ نحو تطوير القوانين الوطنية من دون تردد. وعلى إثر ذلك أقرت النظم اللاتينية (كما في فرنسا وإيطاليا) بمشروعية الدليل الرقمي شريطة المصداقية من الناحية الفنية، وكذا الحال في الولايات المتحدة الأمريكية التي اشترطت إخضاع الدليل الرقمي لمعايير تتجلى في الملائمة والموثوقية وهي المعروفة محلياً باسم (معيار داوبرت) في سبيل استئصال الأدلة الرقمية الزائفة وغير المقبولة محلياً وإبعادها عن سوح القضاء.

 

أما على المستوى الداخلي، فنجد أن العراق أصدر قانون التوقيع الالكتروني والمعاملات الإلكترونية رقم 78 لسنة 2012 كبداية على إمكانية تقبل البيئة التشريعية العراقية للدليل الرقمي والاعتراف به، بيد إن هذا الاعتراف بقي من الناحية العملية من دون تفعيل مؤسساتي بسبب ضعف البنية التحتية والتدريب القضائي المناسب لذلك.

 

وفي ظل اتجاه الكثير من دول المنطقة (مثل البحرين والإمارات) نحو رقمنة إجراءات التقاضي [وهو توجه نتمنى استنساخه عراقياً بشكل مرحلي ومدروس]، وبالتزامن مع الحاجة إلى استحداث قانون للإثبات ينضوي تحت لوائه طابع الرقمية وفق معايير فنية وقضائيّة محكّمة، يبرز دور المعاهد القضائية في ضرورة لعب دورٍ تكاملي بين حركة التشريع والتكوين القضائي العصري من خلال التعامل مع الأدلة التقنية بشكل يجعل من تلك الأدوات مدمجة ضمن النسيج القضائي بشكل ناجع ومساهمة في تحقيق العدالة بشكل متسارع وبعيد عن الحذر الزائد والرتابة.

 

ولا بد من أن يأخذ كل ما تقدم حيزه لدى مشرعنا العراقي من خلال إصدار قانون خاص بأدلة الإثبات الرقمية أو تعديل قانون الإثبات النافذ بقدر مستوعب للوسائل الحديثة. والسبب الرئيس بكل بساطة هو أن هذه التقانة بصورها وأشكالها لا تعني استبدال القاضي بالتقنية بقدر سعيها لتسخير القدرة التقنية من أجل مساعدة القاضي، فمهما كانت المحاكم متصفة بالكفاءة التقنية إلا أنها تبقى بحاجة إلى القيمة القانونية الواقعية التي لا تستطيع أضخم الخوارزميات والمعادلات الرقمية على إنتاجها.

 

خلاصة القول: هو أن قضائنا العراقي رغم تحدياته الجسام التي يخوضها، إلا أن الفرصة سانحة بلا شك للاستفادة من شتى التجارب التشريعية خليجياً أو دولياً في تحديث قانون الإثبات بشكل جذري، خاصة إذا ما أيقن القائمون على السلطة التشريعية بأن الاعتراف القانوني بالأدلة التقنية ليس بالضرورة انصراف معناه إلى القبول الفعلي في سوح القضاء ما لم يتوفر لها ضابطي النزاهة والبيئة القضائية المؤهلة. 

 

ختاماً: يجب الإيمان بأن العدالة لا يمكن أن تكون عدوة للتقنية ما دام بالإمكان أن تكون حليفة لها، لأن الموازنة بين القيمة القانونية والوسيلة التقنية المتقدمة تشكل مفتاحاً مهماً للتطوير التشريعي، وبالتالي فإن العدالة يجب عليها النهوض من خمودها واللحاق بركب التغيير والنظر إلى مستحدثات التقدم العلمي على أنها ذراع للعدالة لا خصم لها، حتى لا تظل تلك القيمة الرصينة تحت محبس الورق والدعاوى التقليدية.